إدارة المُطالبات الإنشائية

 

 

أنور بن خميس العريمي **
alaraimianwar@gmail.com
لا نبالغ إذا قلنا إن حقوق الكثير من المتعاقدين ضاعت سُدًى كما هو حال مقاولين البناء خصوصًا، وذلك نتيجة ضعف التوثيق الجيد للأحداث وعدم الاحتفاظ بمستندات العمليات الإنشائية وإهمال تلك العملية التنظيمية المهمة التي تحافظ على حقوقهم وتساعدهم طبعًا في دعم مواقفهم ومطالباتهم حينما تصل إلى نزاعات متوقعة أو غير متوقعة؛ بسبب تعنّت بعض الملاّك وتعسّفهم في القرارات النهائية المبنية على قرارات المهندس، حتى لو كانت مجانبة للصواب ومخالفة لشروط العقد برفض تلك المطالبات المؤيدة بوثائق ومستندات كافية أو غير كافية.
ومن تجارب واقعية، صادفنا كثيرًا من أصحاب الشركات المقاولين ضاعت مستحقاتهم وتعدّ بعضها بالملايين خلال مطالباتهم أو بعد حصول النزاع، تفاجؤوا بعدم وجود أي حافظات أو برامج خاصة لحفظ الأوراق والمستندات والسجلات المعاصرة المنظَّمة للأحداث بالمشاريع محل المطالبات والنزاعات، أو أن وثائقهم ليست كافية لدعمها وإثبات أحقيتها؛ حيث كانت مبعثرة هنا وهناك؛ الأمر الذي ينعكس سلبًا من ناحية صعوبة الإثبات والاستدلال في طلب تلك المستحقات.
ومن عدة تجارب في ذلك نأخذ بعضها للاختصار؛ حيث إن أحدهم في إحدى الدعاوى وكان هو المدّعي في القضية لا يمتلك أي إثباتات أو أدلة إلا بعض الأوراق التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، وطلب مساعدته في البحث وتجميع الأوراق الضائعة المتناثرة والمستندات المبعثرة في كل ناحية وصوب وترتيبها حسب الأحداث، حينما رأى نفسه مضطرًا للحصول على مستحقاته من الطرف الآخر. ومقاول آخر لديه العديد من القضايا والمطالبات يطالب بمستحقاته الأصلية فضلًا عن التكاليف الإضافية عن الكميات الزائدة والتغييرات المنفذة؛ حيث واجهتنا صعوبات في توفير تلك المستندات الرسمية المعتمدة والفواتير المصدّقة اللازمة المتعلقة بتلك الأعمال التي تم تنفيذها في الطبيعة باعتبارها مرجعًا للإثبات والاستناد عليها في إعداد تقرير فني استشاري لتقييم المطالبات وأحقيتها التعاقدية من عدمه لتقديمه في مساندة دعواه قبل أوان رفعها إلى المحكمة أو التحكيم.
هذا الخلل جعل التقرير ضعيفًا جدًا بالكاد يفيد في بعض المطالبات نتيجة النقص في الأوراق الثبوتية للمستحقات المالية والزمنية، وبالتالي خسارة المطالبات التعويضية بشتى أنواعها حتمية؛ لأن الخبير أو المحكَّم أو القاضي لا يملكون العصا السحرية لإنقاذه من الغرق إذا كان هو يريد إغراق نفسه.
بطبيعة الحال يمكن تعريف المطالبة الإنشائية: (بأنها ادّعاء أحد أطراف العقد بمستحقات، أو تعويضات مالية، أو زمنية، أو كلاهما لدى الطرف الآخر عن تنفيذ أعمال في المشروع أو بسبب مخالفة بنود العقد الإنشائي)، ثم تلك المطالبات تحتاج إلى عملية تنظيمية منهجية استراتيجية لمعالجتها إداريًا وفنيًا وتعاقديًا وقانونيًا بهدف الوصول إلى مطالبة صحيحة وحقيقية تسمى بإدارة المطالبات الإنشائية.
وبالتالي، فإن إدارة المطالبات ضرورية جدًا لأطراف المشروع على أن تكون منذ بداية مرحلة التناقص كون تلك المرحلة ذات أهمية بالغة؛ باعتبارها الأساس الذي يُبنى عليه ما بعده من تعاقدات واتفاقات بين الأطراف وتبادل للوثائق الرسمية بين المتناقصين والمالك مع المهندس إلى إنجاز المشروع وتسوية الحسابات الختامية، لذلك من الأفضل وجود أخصائيين وإداري عقود ومطالبات لدى الجهات والأطراف المعنية بعقود المقاولات أو إنشاء لجنة خاصة مكوّنة من ذوي الكفاءة والخبرة أو إنشاء قسم خاص يُعنى بتسوية المطالبات والنزاعات في كل المراحل التنفيذية للنظر فيها ومواجهتها بالدراسات الدقيقة وتحديدها ثم تقييمها تقييمًا صحيحًا ومحايدًا ثم الموافقة أو الرفض قبل تفاقمها وتركها دون حل مما يضطر الأطراف للجوء إلى القضاء أو التحكيم.
ومن المؤسف جدًا أن حصول تلك الأمور كثيرًا لدى الشركات والمؤسسات الوطنية ذات الدرجات الأولى والممتازة، لذا من باب أولى أن يكونوا مثالًا ونموذجًا يُحتذى به في عمليات التوثيق المنهجي والتدوين المتواصل أثناء تنفيذ العقد، أضف إلى ذلك الشركات التي لم يحصل لديها خلافات سابقة ولا تتوقع حدوث ذلك من باب المبالغة في حسن الظن أو الطيبة الزائدة التي تصل إلى حد السذاجة أحيانًا.
وبالرغم من تعدُّد وكثرة أسباب المطالبات في عقود الإنشاءات، لكن في الحقيقة أن التأخيرات هي أغلب أسبابها، مما ينبغي على كل طرف في العقد المعرفة والدراية اللازمة بكيفية إدارة تلك المطالبات بطريقة صحيحة وواقعية طبقًا لشروط العقد أو بعرف أصول المهنة الهندسية؛ حيث حدد الخبراء التأخيرات إلى تأخيرات معذورة (Excusable delay) وتأخيرات غير معذورة (Non-excusable delay)، وتأخيرات متزامنة (Concurrent delay)، فإذا كان سببها المقاول فتُعتبر تأخيرات غير معذورة، وبالتالي غير قابلة للتعويض ويتم فرض التعويض الاتفاقي عليه من قبل المالك، أما إذا كان المتسبّب هو المالك أو أحد ممثليه أو حدثًا طارئًا غير متوقع فيُعتبر تأخيرًا معذورًا وقابلًا للتعويض المالي أو الوقتي أو كليهما للمقاول.
أما في حالة التأخير المتزامن (Concurrent delay)؛ فيكون التسبب من طرفين مستقلين أو أكثر في وقت متزامن أو متداخل، وبالتالي المرجّح في التعويض أن يكون وقتيًا فقط للمقاول.
ونُشير هنا إلى أن إشعار المالك أو المهندس في أقرب وقت ممكن عمليًا بالأحداث التي تؤدي للمطالبات لا يُحبَّذ التأخير فيها؛ وذلك من أجل أخذها في الحسبان باعتبارها تنبيهًا للطرف الآخر بالظروف الحاصلة والحوادث الطارئة خلال التنفيذ، لكي يتسنى له الاستعداد المعنوي والمادي والنظر بعين الاعتبار لذلك التنبيه، ولأن كل إخطار أو خطاب من قبل المقاول بشأن موضوع يتعلق بأعمال أو حوادث في المشروع ولا يتم الرد عليه من قبل المالك أو ممثليه يُعتبر طبعًا حجة للمقاول.
في المقابل، من غير المقبول والمعقول إلقاء كامل اللوم على المالك في عدم قبول أو رفض تلك المطالبات لاحقًا من قبل طالب التعويض إذا لم يتم إشعاره بها في حينه.
والاهتمام بإدارة المطالبات الإنشائية لها فوائد عديدة على أطراف العقد منها كالآتي:
1.     التوثيق الجيد والمنهجي للمستندات والأوراق المهمة.
2.     الحفاظ على الاستحقاقات التعاقدية وحقوق الأطراف.
3.     التزام الطرفين بتطبيق الشروط التعاقدية.
4.     تجنب حدوث المطالبة أو تخفيف أثرها إن حدثت.
5.     تقليل وتجنب حدوث النزاعات في العقد.
6.     إمكانية تسوية المطالبات بسهولة ويُسر.
7.     تحديد المطالبة وتقييمها.
8.     الاتصال الجيد والتعاون البنّاء بين الأطراف.
9.     تعزيز العلاقة الجيدة بين أطراف المشروع.
10.    إمكانية حل المطالبات في وقتها ومنع تراكمها.

إن كل عقد إنشائي نموذجي محلي أو دولي يتضمن في شروطه تفاصيل لإدارة تلك العملية الاحترافية، لذلك واضعو تلك البنود يدركون أهميتها الإيجابية لكلا الطرفين، كما أنهم يؤكدون دائمًا من خلال تلك الشروط على اتباع الخطوات اللازمة عند تقديم المطالبات ذات الأهمية.
ختامًا.. على المختصين بإدارة العقود والمشرفين الفنيين على تنفيذ المشاريع الإنشائية تحمّل المسؤولية المهنية بعدم الإخلال بالإجراءات التنظيمية لإدارة المطالبات، وبالتالي وجب الانتباه والحذر من التفريط فيها أثناء مراحل تنفيذ المشروع من خلال التقليل من أهميتها وفوائدها.

** خبير هندسة مسح الكمِّیَّات ومُحَكِّم تجاري
 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة